الفنون اليدوية التراثية عند المرأة الصليحابية

الحديث عن حواء الصليحابية حديثٌ ذو شجون وفنون ويحتاج الى مجلدات للكتابة عنها إن انتهى ورقها وجف قلم كاتبها فإن الحديث عنها لن ينتهي ؛ فالمرأة الصليحابية امرأة ذات كفاح طويل وماض ٍعريق تشهد له القبيلة ؛ كيف لا وهي حفيدة جدية مثال الأصالة، والشجاعة ،والكرم، والجود الصليحابي .
إن الحديث عن حواء الصليحابية له طعم خاص وعبقٌ مميز ينشر أريجه في كل زمان ومكان ويحمل بين طياته أروع معاني التقوى والورع ونبل الأخلاق والصبر والكرم .
والمرأة في قبيلة الصليحاب عُرفت بكونها إمرأة تعرف كيف تدير شؤون بيتها وأسرتها وتُساهم في معاونة زوجها وتبره وتطيعه كما إنها إمرأة مدبرة تعرف كيف تساهم في تثقيف نفسها دينياً، وثقافياً ؛ كما إنها فنانة ماهرة تعرف أيضاً كيف تستفيد من خامات الطبيعة الموجودة حولها ( كالسعف ، والطين ، والصوف ، والمنتجات الزراعية ،والحيوانية ... الخ) وتتفنن في صنع تحف فنية مميزة تستفيد منها في مطبخها وبيتها ؛ كما تدر عليها وعلى أسرتها مصدراً اقتصاديا ً إضافياً حيث أنها تتقن ضفر السعف بمهارة ،وصناعة الطباقة، والبروش، والقفاف وغزل وصناعة الصوف ،وصناعة الألبان وغيرها من الفنون والمهارات اليدوية التي تناقلتها بنات وحفيدات جدية عبر أجيال طويلة وستتناقلها الأجيال من بعدهن بإذن الله .

(1) صناعة البُروش :
من المهن والمهارات اليدوية التي تتقنها النساء الصليحابيات بدقة ؛ وتعتمد صناعة البروش على سعف شجرة الدوم ، والنخيل حيث تكثر هذه الاشجار في مناطقهن و خاصة في إقليم كردفان وماجاوره ؛والبرش (جمعه بروش ) له استخدامات عديدة حيث يُستخدم في عرش المنازل ، ومفرش للجلوس عليه؛ كما يُستخدم البروش في( التُكن ) او المطبخ لتجفيف المواد الغذائية مثل : البصل ، والباميا ( الويكة ) ، والحبوب كالقمح ، والذرة وغيرها ؛وبالرغم من أن إستخدام البرش كأحد الأدوات المنزلية معروف منذ القدم الا انه مازال يُستخدم حتى الاّن حيث يستخدم ايضاً كبساط أو فرش للجلوس عليه في الماّتم ، ولأداء الصلاة ،وكمفرش للعنقريب الذي يُحمل عليه الجثمان الى المقابر .

استخدامات البرش في المناسبات السعيدة:
يستخدم البرش في ليلة الحناء وعند خضاب العروس والعريس حيث يتم استخدام البرش الملون بالتفتة ( صبغة خاصة لتلوين السعف) كماتتم زخرفته بأشكال هندسية جميلة و يتم فرشه كمفرش على السرير أو العنقريب الذي يجلس عليه كلا من العريس او العروس ، كما يستخدم أيضاً في ليلة الجرتق ويُفرش على العنقريب المخصص لأداء مراسم الجرتق ، وقطع الرحط حيث يجلس عليه العروسان .
كما يستخدم البرش بدلاً من المرتبة أو اللحاف خاصة أيام الصيف الحارة لأن الطريقة التي تُصنع بها البروش تكون بطريقة تجعل البرش يتميز بمسامات واسعة تساعد في تمرير الهواء من خلاله ، كما يستخدم البرش النساء أمهات الاطفال وايضا عندما تكون المرأة في حالة الوضوع وكثيرا مايستخدم البرش أيضاً في المناسبات والدينية ، الإجتماعية للجلوس عليه .

( ضفـــر الســـعف (1) )

المرأة الصليحابية إمرأة مليئة بالخيرات فهي امرأة مدبرة تعرف كيف تستفيد من وقت فراغها فيما يعود عليها بالنفع وعلى أسرتها بالفائدة ؛ فعندما يأتي فصل الصيف بنفحاته الحارة ، وبلياليه المقمرة الساحرة مدخلاً السكينة والهدوء على أرض كردفان الغرة ، وبعد عناءٍ شاق من تعب فصل الخريف وحصاد خيراته تكون حواء الكردفانية قد اشتاقت الى دعة الراحة والسكينة ؛ ولكن أنّى لها أن ترتاح ؛ فهي كالنحلة التي تطير من زهرة الى زهرة بخفة ونشاط ، فمع حلول فصل الصيف بنهاره الطويل تبحث حواء عن وسيلة تسلي بها نفسها وتقطع بها نهار صيفٍ طويل .
وفن ( ضفر السعف ) من الفنون اليدوية الشعبية التي تبدع فيها أنامل حواء وهو فن توارثته الامهات عن الحبوبات .
وعملية ضفر السعف عبارة عن رحلة طويلة وشاقة نسبياً نتتبع فصولها عبر هذه المساحة تبدأ منذ لحظة جني السعف ، والذي ؛ يتميز بلونه الاصفر الفاتح وملمسه الناعم الطري ، وبعدما يتم جنيه وقطفه يتم فرزه وتجذيبه وتقسيمه الى أجزاء طولية متوسطة السُمك ، وتُستخدم الاجزاء الغضة أو الصلبة منه في صناعة المكانس ( المقاشيش ) و السعافات ؛ اما الاجزاء الطرية فتستخدم في صناعة البُروش ،والهبابات، والمصلايات .
وقبل البدء بأولى خطوات ضفر السعف يتم فرز الكمية المراد ضفرها لصناعة المنتج سواء كان ( هبابة او برش أو مصلاية ) و فرز الاجزاء الطويلة والمتوسطة الطول حسب نوع المنتج ، ثم نحضر وعاء خاص تبل فيه السعفات(جمع سعفة) وتبدا أولى خطوات ضفر السعف بعمل القاعدة الاساسية ( الضفيرة ) والتي تكون عبارة عن ضفيرة مكونة من عدد من السعفات يتم ضفرها حسب طول المنتج المراد سواء من أربعة أو ستة أو ثمانية شقق ( الفراغات التي تمرر من خلالها سعفة الضفيرة او كما تُسمى بالمشاية ) تتم ضفرها بإدخال السعفة بعضها فوق بعض حتى تتكون لدينا قاعدة متينة ويجب مراعاة شد القاعدة عند الانتهاء من ضفر صف من الضفيرة ويجب الإنتباه الى ان طول شريط الضفيرة يجب أن يكون متناسباً مع حجم المشغولة سواء كانت برش ام هبابة ، كما أنه وأثناء القيام بعملية الضفر يجب رش السعف بالماء في كل مرة حتى لايجف السعف ويكون ليناً وسهل الضفر ولا يؤلم الاصابع عند ضفره ، كما انه يجب لف نهاية او شريط الضفيرة كلما زاد طوله وبشكل حلزوني حتى لا تتسخ عند ملامستها للارض أو تنكسر السعفات عند لف الضفيرة مرة واحدة ، بل يجب لفها في كل مرة .
وتكون عملية ضفر السعف من الحافة أي من حافة قاعدة الضفيرة ، نأخذ سعفة واحدة من الحافة اليمنى ونمررها بين باقي السعفات حتى نصل بها الى نهاية الحافة اليسرى وهذه العملية تشبه الى حد ما عملية ضفر الشعر وتكرر هذه العملية في كل مرة تبدأ من الحافة اليمنى وتنتهي عند الحافة اليسرى ثم من الحافة اليسرى الى الحافة اليمنى وهكذا. وفي كل مرة تنتهي أو يقصر طول السعفة تتم إضافة سعفة اخرى أو مشاية كما تُسمى والضفيرة تتكون من شقق من أربعة أربعة أو ستة ستة أو ثمانية ثمانية حسب نوع المنتج ، ويجب مراعاة شد شريط الضفيرة من الوسط او من المفترق برفق حتى تاخذ الضفيرة شكلها الجميل والمتناسق لها وحتى لا تكون مرتخية وتكون متماسكة عند خياطتها .
إن فن ضفر السعف يعتبر أحد قيم الترابط الإجتماعي بين نساء الريف حيث تتم أغلبها في مجاس الأُنس ، والمناسبات الإجتماعية وذلك لقطع نهار الصيف الطويل في شئ مفيد وتتخلل تلك المجالس الجميلة رائحة عبق البن ،وصوت (تنتنة فندق الجبنة) ومعتقة برائحة الشاي بالنعناع مختلطة بضحكات الحبوبات والأمهات وهن يجلسن و يحتمين من حر الصيف في راكوبة احدى نساء الفريق او الحي يتبادلن اطراف الحديث والونسة في أحلى حُلة لأحلى لمة .

في المساحة القادمة نستعرض عملية خياطة الضفيرة وكيفية تلوينها وتزيينها